لم يشرفني القدر لأكون واحدا من أصدقاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش، كما لم أحظ بفرصة أن أكون أحد "الفضوليين" الكثر الذين يحيطون به، لذا لم تكن لي غاية أو هدف ذاتي في التقرب منه أو التودد إليه. أحببت محمود درويش كما أحبه غالبية الفلسطينيين، واقتربت من شعره كما اقترب كل قرائه ومعجبيه. وتابعت مسيرة محمود درويش كما راقبها وتابعها أي معجب بشعره، انحزت إليه واختلفت مع من أنكر عليه تطوره وانتقاله إلى فضاءات جديدة في عالم الشعر، من الذين أرادوا له أن يبقى متقوقعا في مرحلة "سجل أنا عربي"، وادعوا أن محمود أخذ يلجأ إلى الغموض، وأنهم لم يعودوا يفهمون شعره، لذا ازوروا عنه وكأنهم هم جمهوره الوحيد، لكن جمهوره أخذ بالتوسع والانتشار كلما انتقل درويش إلى فضاء جديد.
ولأن محبتي لدرويش كانت خالية من الغايات والأهداف، لم أختلف معه. لم اختلف معه عندما ترك أرض الوطن بعدما ضاقت به السبل ومساحة الحرية، وانتقل إلى عالم أرحب عالم الوطن العربي، ولم أر غضاضة في هذا الانتقال، فهو ينتقل من سجن إلى حضن رحب وواسع، ينتقل من وطنه الصغير إلى وطنه الكبير. كما لم أختلف معه عندما عاد عودة ناقصة إلى أرض الوطن، إلى رام الله، في ظل تفاهمات أوسلو التي عارضها وابتعد جراءها عن السياسة، واقترب أكثر من الوطن. وبالطبع لم أختلف معه ولم أدخل في ذاك النقاش الطائش، لدى زيارته الأخيرة لمدينة حيفا ومشاركته في أمسية شعرية خاصة به، كما لم أتحمس لحضورها ومشاهدته عن قرب رغم شوقي الكبير إلى ذلك، ورأيت في ذاك النقاش العقيم تنافسا في غير محله خرج عن أصول النقاش "الأدبي"، لذا أطلقت صرخة متواضعة دعوت فيها إلى "لفلفة الطابق". واليوم وبعد سماع خبر وفاته المفجع والمؤسف والمفاجئ، لم أشارك في الخروج إلى بعض التظاهرات الحزينة الباكية في شوارعنا، لأنها هدفت إلى احتواء درويش مجددا حتى في مماته وجره إلى هذا الطرف أو ذاك، وكأن أحدا بوسعه أن يمتلك هذا الصوت الجميل، أو هذا الشعر الأنيق، وفضلت أن أتسمر أمام جهاز التلفاز لساعات كل يوم، أشاهد وأستمع وأملأ عيناي بصورته، وأذناي بصوته وخاصة في الفضائية الفلسطينية.
وبعد وفاته لم أدخل في سجالات أفقدت موت الشاعر رهبته وقوته، حول مكان دفن شاعرنا القومي، في "رام الله"، أم في "الجديدة" ام في "حيفا"، أم في "البروة"؟ بينما جثمانه ما زال مسجى، هناك خلف المحيطات. واذا وافقت اسرائيل على دفنه في "الجديدة" فهل نسكت عن مطلب دفنه في "البروة" مسقط رأسه، وهل كان بالامكان تحقيق ذلك؟ فهل هناك متسع لمثل تلك "الشطارة" في حضرة الموت الدرويشي؟ أليس هو شاعر فلسطين كلها، أليس هو شاعر العرب جميعهم؟ أليس هو شاعر على مستوى العالم بأسره؟ (كل قلوب الناس جنسيتي)
هكذا كانت علاقتي بدرويش، وهكذا أحببت ان تكون. كل ما أردته من درويش هو شعره. وكلما قرأت ديوانا جديدا، بل قصيدة جديدة، أصبت بالدهشة، لماذا؟ لم أجد تفسيرا "نقديا" رغم محاولاتي تفسير تلك الحالة التي تنتابني عند كل قراءة جديدة. ووجدت ببساطة أن لغة درويش تدهشني، قدرته على تطويع اللغة، والتلاعب بأحرفها، والنجاح في الخروج بلغة جديدة "لغة درويشية" من طراز خاص، كانت تسحر لبي وتجعلني أعيش في نشوة، وأتوقف للحظات لأهضم لغته الجديدة بتلذذ وأتابع القراءة.
ولأن محبتي لدرويش لم تكن لغاية أو هدف، لم أجد حرجا في اصطحابه مرة أنا وزوجتي لقضاء نهاية أسبوع خاصة، في أعالي الجليل، وفي مكان يطل على بحيرة طبريا. وفي الصباح أخذت أقرأ من آخر ديوان له صدر آنذاك في العام 2004، دون أن أجد حاجة لأن اعتذر لزوجتي عما فعلته، مستمدا القوة من اسم الديوان "لا تعتذر عما فعلت"، وكلما قرأت قصيدة نظرت إلى زوجتي وكانت تجيبني بابتسامة صامتة، علامة الرضى. هو الوحيد- محمود درويش- الذي أذنت له بمصاحبتنا في تلك الإجازة الخاصة، ولم يكن هو إلا ضيفا خفيفا أضفى على صحبتنا جوا من المتعة والرومانسية مع شعره الرقيق والمتجدد والمدهش. ومن ذاك الشعر المدهش الذي قرأته كان: "الآن، إذ تصحو، تذكّر رقصة البجع/ الأخيرة. هل رقصت مع الملائكة الصغار/ وانت تحلم؟ هل أضاءتك الفراشة عندما/ احترقت بضوء الوردة الأبدي؟ هل ظهرت لك العنقاء واضحة... وهل نادتك/ باسمك؟ هل رأيت الفجر يطلع من أصابع من تحب؟ وهل لمست الحلم/ باليد، أم تركت الحلم يحلم وحده،/ حين انتبهت إلى غيابك بغتة؟"
* كاتب فلسطيني من مدينة شفاعمرو/ الجليل.
مقالات اخرى للكاتب